الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم
.الطريق إلى معرفة المكي والمدني: والعمدة في معرفة المكي والمدني النقل الصحيح عن الصحابة الذين كانوا يشاهدون أحوال الوحي والتنزيل، والتابعين الآخذين عنهم، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول، وقد علل ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني في الانتصار فقال: ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول؛ لأنه لم يؤمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول.ولعل التعليل بأن المسلمين في زمانه صلى الله عليه وسلم لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان لأنهم يشاهدون الوحي والتنزيل، ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله- أولى من ذاك التعليل.وقد اشتهر بمعرفة المكي والمدني من الصحابة رضوان الله عليهم عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه روى البخاري بسنده عنه أنه قال: والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه. وقال أيوب: سأل رجلا عكرمة عن آية من القرآن فقال: نزلت بسفح الجبل وأشار إلى سلع. أخرجه أبو نعيم في الحلية..تعريف المكي والمدني: للعلماء في تعريفهما اصطلاحات ثلاثة:الأول: ما عليه جمهور العلماء وهو: المكي: ما نزل قبل الهجرة وإن كان نزوله بغير مكة، ويدخل فيه ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في سفر الهجرة.والمدني: ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله بغير المدينة، ويدخل فيه ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره بعد الهجرة كسورة الفتح فقد نزلت على النبي منصرفه من الحديبية.وهذا الاصطلاح لوحظ فيه الزمان، وعليه فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} الآية مدني وإن كانت نزلت بمكة والنبي صلى الله عليه وسلم في جوف الكعبة عام الفتح، وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} مدني وإن كانت نزلت بعرفة في حجة الوداع وهذا التقسيم حاصر وضابط ومطرد؛ إذ تنعدم على القول به الواسطة ولا يرد عليه ما ينقضه فلذا كان الراجح المقبول.الاصطلاح الثاني: المكي: ما نزل بمكة ويدخل في مكة ضواحيها كالمنزل عليه بمنى وعرفات والحديبية.والمدني: ما نزل بالمدينة ويدخل في المدينة ضواحيها كالمنزل عليه ببدر وأحد وهذا الاصطلاح لوحظ فيه المكان؛ ويرد على هذا التعريف أنه غير حاصر لأنه يثبت الواسطة فما نزل عليه بالأسفار لا يسمى مكيّا ولا مدنيّا وذلك مثل ما نزل بتبوك، وهو قوله تعالى: {لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 43] الآية، ومثل آية التيمم التي في سورة النساء فإنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وهو منصرفه صلى الله عليه وسلم والجيش من غزوة بني المصطلق.الثالث: المكي: ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني: ما وقع خطابا لأهل المدينة، ويحمل على هذا ما نقل عن ابن مسعود أنه قال: ما كان في القرآن- يا أيها الذين آمنوا- أنزل بالمدينة، وما كان يا أيها الناس فبمكة. وما نقل عن ميمون بن مهران التابعي الجليل أنه قال: ما كان في القرآن يا أيها الناس أو يا بني آدم فإنه مكي، وما كان يا أيها الذين آمنوا فإنه مدني، وهذا الاصطلاح لوحظ فيه المخاطب، ويرد على هذا الرأي أن التقسيم عليه غير حاصر فهنالك آيات كثيرة جدّا في القرآن الكريم ليس فيها يا أيها الناس ولا يا أيها الذين آمنوا كما يرد عليه أنه غير مطرد؛ إذ هو منقوض بسورة البقرة المدنية وفيها: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وبسورة النساء المدنية ومفتتحها يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ وبسورة الحج فإنها مكية عند جماعة من العلماء وفي أواخرها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج: 77].قال الإمام الرازي في تفسيره تعقيبا على هذا الاصطلاح الأخير: قال القاضي: إن كان الرجوع في هذا إلى النقل فمسلّم وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف إذ يجوز أن يخاطب المؤمنين بصفتهم. وباسم جنسهم، ويؤمر من ليس بمؤمن بالعبادة كما يؤمر المؤمن بالاستمرار عليها والازدياد منها فالخطاب في الجميع ممكن فإن قال قائل: إن مراد هؤلاء بمقالتهم هذه أن الغالب والكثير كذلك، قلنا: إن ذلك لا يفيد في التقاسيم والتعاريف إذ مبناها على الضبط والانحصار والاضطراد..أنواع السور المكية والمدنية: القرآن الكريم على أربعة أنواع:1- مكي خالص.2- مدني خالص.3- مكي بعضه مدني.4- مدني بعضه مكي.أما المكي الخالص فمثل: سورة اقرأ، والمدثر، والقيامة.وأما المدني الخالص: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وأما المكي الذي بعضه مدني فمثل سورة الأنعام، فإنها مكية إلا قوله تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} الآية، فقد صح أنها نزلت في مالك بن الصيف من اليهود، وسورة الأعراف، فإنها مكية إلا قوله تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ} [سورة الأعراف: 163] الآية إلى خمس آيات أو ثمان بعدها فإنها مدنية، فإن الضمير في {وَسْئَلْهُمْ} لليهود، ولم يكن بمكة يهود، ومثل سورة الإسراء فإنها مكية إلا قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [سورة الإسراء: 85] الآية فإنها مدنية كما يدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود وقد تقدم في أسباب النزول. ومثل سورة هود فإنها مكية إلا قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} [سورة هود: 114] الآية فقد صح أنها نزلت بالمدينة في قصة أبي اليسر.وأما المدني الذي بعضه مكي فمثل: سورة الأنفال، فإنها مدنية إلا قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة الأنفال: 30] الآية فقد روي عن مقاتل أنها مكية واستثني أيضا قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا} إلى غاية آية [36] فمكيات.وقد روي عن ابن عباس أن آية: {وَإِذْ يَمْكُرُ} نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة تذكيرا له بنعمة الله عليه فهي مدنية على هذا.ومثل سورة {براءة} فهي مدنية إلا قوله: {مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى} [سورة {براءة}: 113] الآية فالصحيح أنها نزلت في قول النبي لعمه أبي طالب: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك»..الاعتماد في وصف السورة بكونها مكية أو مدنية: والذي يظهر أن اعتمادهم في وصف السورة بكونها مكية أو مدنية إنما يكون تبعا لما يغلب فيها أو تبعا لفاتحتها، فقد ورد عن ابن عباس: أنه قال إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت مكية ثم يزيد الله فيها ما شاء، وقال البيهقي في الدلائل: في بعض السور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة فألحقت بها وقال ابن الحصار: كل نوع من المكي والمدني منه آيات مستثناة إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل، وقال ابن حجر في الفتح: قد اعتنى بعض الأئمة ببيان ما نزل من الآيات بالمدينة في السورة المكية... وأما عكس ذلك وهو نزول شيء من سورة بمكة تأخر نزول تلك السورة إلى المدينة فلم أره إلا نادرا، فقد اتفقوا على أن الأنفال مدنية، لكن قيل: إن قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ}... الآية نزلت بمكة.وترتيب الآيات القرآنية ليس على حسب نزولها، وترتيبها الزمني، إنما يرجع إلى المناسبات التي تقوم على ارتباط المعاني وتماسكها، ووحدة الفكرة أو تجانسها، فلا عجب إذا أن يكون في بعض السور المكية آيات مدنية أو العكس.وليس أدل على هذا من أن بعض الآيات وضعت بجانب بعض الآيات الأخرى مع وجود فاصل زمني بينهما نحو بضع سنين كما قدمنا في أسباب النزول، وذلك مثل نزول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} فقد نزلت بعد قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} بنحو ست سنين..المكي والمدني من السور: قد اختلف العلماء في بيان المكي والمدني من السور على أقوال كثيرة ذكرها السيوطي في إتقانه، ومن السور ما اتفق العلماء على مكيتها أو مدنيتها، ومنها ما اختلفوا في كونه مكيّا أو مدنيّا، ولا يهولنك تشعب الاختلاف في هذا فمرد معرفة المكي والمدني إلى الأحوال والقرائن والملابسات، ومثل هذه مما تختلف فيها الأنظار، وتتنوع الاستنتاجات، ولعل أوفق هذه الأقوال وأقربها إلى الصواب ما ذكره أبو الحسن بن الحصار قال: إن المدني باتفاق عشرون سورة والمختلف فيها اثنتا عشرة سورة، وما عدا ذلك مكي، وقد نظم ابن الحصار ذلك في منظومة له نقلها السيوطي في الإتقان، وخلاصة ما تضمنه هذا النظم:أن السور المدنية باتفاق هي:(1) البقرة (2) وآل عمران (3) والنساء (4) والمائدة (5) والأنفال (6) والتوبة (7) والنور (8) والأحزاب (9) ومحمد (10) والفتح (11) والحجرات (12) والحديد (13) والمجادلة (14) والحشر (15) والممتحنة (16) والجمعة (17) والمنافقون (18) والطلاق (19) والتحريم (20) والنصر.أما المختلف فيها فهي: (1) الفاتحة (2) والرعد (3) والرحمن (4) والصف (5) والتغابن (6) والتطفيف (7) والقدر (8) ولم يكن (9) وإذا زلزلت (10) والإخلاص (11، 12) والمعوذتان.وأما المكي فهو ما عدا ذلك، وهي اثنتان وثمانون سورة.أقول: إن بعض ما ذكره ابن الحصار غير مسلم؛ لأن على رأيه تكون سورة الحج مكية باتفاق مع أنه روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أنها مدنية، وهو الأرجح، وليس من المستساغ أن نعتبر أن هذا الخلاف كلا خلاف إلا إذا سرنا على منهجه حيث قال في آخر منظومته:ولا أدري كيف لا يكون لهذا حظ من النظر وهو الراجح.
|